الحب خلاصة الفنون
إنّ الإبحار في المشاعر الإنسانية، أعمق من الغوص إلى قاع المحيطات وأكثر غموضاً من أسرار البحار، فغالباً ما تصل السفينة إلى برّ الأمان، بعد مواجهتها العواصف في وسط المحيط، أمّا في علاقات الحب فنادراً ما نحقّق أحلامنا وآمالنا. لذلك وجب الحذر منه، فلا نسمح لأمواجه مهما بدت هادئة بالتحكّم بسفينتنا، كي لا تعلو فوقها وتغافلها، فتفتّت هيكلها وتمحو معالمها.
إنّ العلاقة بين شخصين تعتمد على قدرة كل منهما على الحفاظ على هويّته، فلا يُدمّر طرف من أجل آخر. فالحب لا يعني التنازل أو الذلّ كما غنّى المطرب كاظم الساهر”يضرب الحب شو بيذل” بل هو اهتمام واحترام متبادل من أجل استمرار العلاقة وديمومتها، وقد قيل “في الحرب والحب كل شيء مباح” ولكن ثبت وجود خطوط حمراء في جميع ميادين الحياة، وتجاوزها يعني الاستهتار بالإنسانية. وقد عرّف الكاتب والمفكّر “إريك فروم” الحب في كتابه “فنّ الحب”؛ إنّه ”الاتحاد الذي يتوافر فيه أن يحتفظ كلّ بتكامله، كلّ بهويته، كلّ بتفرّده”.
فالحب شعور غامض متناقض، يملأ النفس بهجة حيناً وألماً أحياناً وقد يختلف من شخص لآخر ولكن ركائزه لا بدّ أن تكون واحدة وهي الاهتمام والاحترام والأهم من ذلك هو الالتزام بهما وعن قناعة كاملة، فلا علاقات عابرة بل إخلاص مطُلَق للشريك، إذ هناك مَن يُبرّر تعدّد العلاقات كونها مجرّد نزوات، مع التأكيد أنّ الحب يبقى لشخص واحد. إلاّ أنّ القدرة على وهب الجسد لآخر تنفي وجود الحب، لأن الجسد والروح متلازمان لا ينفصلان سوى في العالم الروحي. في هذه الحالة لا يوجد “حب” من الأساس بل مجرّد اقتناع عقلاني بشخص، وهو أبعد ما يكون عن الحب الذي يميل إلى اللامنطق منه إلى المنطق.
أمّا “الاهتمام” الدائم، فهو شعلة الحب التي بانطفائها يخفت بريقه، إذ غالباً ما ينجذب طرف لآخر بسبب هذا الاهتمام الذي سرعان ما يبدأ بالزوال كلّما اقترب الطرف الثاني، لتبدأ رحلة الانشغال الدائم وعدم التفرّغ للإجابة حتّى على الاتصالات الهاتفية. قد يكون ذلك مقبولاً في بعض الأحيان ولكن أن يصبح روتيناً يومياً، يعني أنّ هناك خلل في العلاقة. طرف أول يلاحق طرفاً ثانياً. إذ إنّ تسرّب الملل إلى طرف واحد يحوّل العلاقة إلى نوع من التبعية وغالباً ما يبرّر التابع، عدم اهتمام الطرف الآخر تبريراً لا منطقياً، نظراً لتعلّقه به وعدم الرغبة بالانفصال أو مواجهة الحقيقة والاعتراف بالفشل، وعدم القدرة على الاستمرار. وقد نبدأ بالبحث عن أسباب انعدام اللهفة تدريجياً، ولكن دون جدوى فالغموض يكتنف هذه الأمور. وقد تكون هذه الحالة نوعاً من الإدمان الروحي أو الجسدي أو كليهما معاً على شخص معيّن. فيختلّ نظام حياتنا عند فقدانه وقد نفعل المستحيل لاستعادته. لنُدرك لاحقاً أنّه لم يكن حبّاً بل مجرّد تعوّد على شخص معيّن من أجل أن تختبر روعة الحب، كُن أنت ذاتك لا نسراً يحلّق في الفضاء، ولا فراشة تعشق الاحتراق، إذ سرعان ما تنكشف صورتك الحقيقية وتُرهَق من التحليق بجناحين مزيفين أو تحترق من شدّة الانبهار، فتتحوّل إلى ظلٍّ لحبيب لا لون لك ولا تفاصيل بل مجرّد طيف داكن.
وأخيراً ليت الحب كان فنّاً يُدرّس في المعاهد والجامعات، ولكنّه يبقى الأكثر تعقيداً بين المشاعر الإنسانية. ومع ذلك ترانا نحاول تفسيره من خلال تجارب العشّاق، ونصرّ على اكتناه أسراره وتحويله إلى فنّ علّنا نلمس حقيقته. ولكّنه يبقى لغزاً أو ربّما وهماً، أو قد يكون خلاصة الفنون بأسرها. لذلك نعجز عن وضع قواعد ثابتة له فهو تارة الأدب والشعر وتارة الرسم والخيال وأحياناً هو الغناء والرقص والعزف وغيرها …فمَن منّا يتقن جميع الفنون، قد يتمكّن من سبر أغوار الحب.